انكسفت (شمسٌ) في سماء التراث!

محمود بن محمد حمدان

أكتوبر 17, 2022

بعد عِشاء أمسِ التقيتُ أخي الشيخ عبد الله آل غيهب، الذي اضْطلَع بإخراج بعض ما لم يُخرَج من تراث شيخِ الإسلام رحمه الله، سيرًا على سَننَ شيخِنا المُحقِّق الثَّبْت محمد عُزير بن شمس الحق السَّلفي الهندي، الخِرِّيت في تراث ابن تيميَّة وقراءة خطِّه!
ولمَّا أطلعتُ أخانا عبد الله على رسالة الماجستير التي قدَّم لها شيخُنا محمد عُزير شمس وعلَّق على مواطن يسيرة أثبتُها باسْمه، سُرَّ كثيرًا.
وبعد دقائق من هذا اللقاء نُعِيَ إلينا شيخُنا محمد عُزير رحمه الله؛ فانكسَفت شمسٌ كانت مشرقةً في رائعةِ نهار التحقيق، وانهدَّ جبلٌ كان شامخًا في العلم والتراث والتدقيق؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولي وقفاتٌ عَجْلَى مع شخصية شيخِنا، فقد أسرَني بسَمْتِه وأدبه في أولِ زيارةٍ له في بيتِه بمكة المكرمة سنة ١٤٣٤ برفقة أخي الطَّاهر المَحَسِي، ولمَّا حدَّثتُه عن إحدى رسائل العلامة محمد حياة السِّندي التي صورتُها بنفْسي من دار الكتب المصرية بالقاهرة ولم يقف عليها قبلُ، تبدَّى شغفُه بها؛ فبادرتُ بإهدائه النسخة الخطيَّة، فتهلَّل وجهُه وطابت نفسُه، ثم شرَّفني بإهدائي عِلقين نفيْسيْن من تراث الإمام ابن القيم بتحقيقه، الأول: «الكلام على مسألة السَّماع» وقال عنه: أوسَعُ كتابٍ في الردِّ على الصوفية.
والثاني: «إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان»، ودوَّن لي بخطِّه الجميل الإهداء، وهمَّ بإلحاق السلسلة كاملةً، فاعتذرت لأجل وزن الطائرة المحدود!

ورغبتُ إليه في اليوم التالي أن يكتبَ لي ترجمةً موجزة لوالده العلامة شمس الحق رحمه الله؛ ففَعَل جزاه الله خيرًا، وكانتا جلستيْن علميَّتيْن تشعرُ وكأنهما مع أَحدِ لِدَاتِك!

ثمَّ لمَّا هممتُ بالانصراف أصرَّ على إيصالي للفندق بكرمٍ وأريحيَّة.
وهنالك التقى شيخَنا فؤاد أبو سْعِيد، وكلاهما تخرَّج في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة قبل قرابة أربعة عقود، فلا تسَل عن جمال اللقاء وأُنس الحديث مع شيخيْنا.

ولمَّا سنَّى اللهُ الكريم لي العُمرة في العام التالي: ١٤٣٥ دعاني أخي الكريم الشيخ نضال داود الدمشقي إلى مأدُبة عشاء، فلمَّا وصلتُ فإذا بالشيخ نضال قد دعا شيخنا عزيرًا؛ فاجتمَع غذاءُ العقول مع غذاء الأبدان؛ فكانت أمسية من أجمل الأمسيات، التي عرضتُ فيها على شيخنا عملًا تراثيًّا طالبًا النصيحة فما كان منه إلا البذل والتوجيه.

ثم بعد سنوات فرغتُ من مناقشة الماجستير فأرسلتُ لشيخنا بواسطة الأخوين لؤي السوداني ونضال داود الرسالةَ، وهي تحقيقي لكتابِ للعلامة محمد حياة السِّندي: «ركضة، في ظهر الرَّفَضة» فقرأها الشيخُ بتمامها وقدَّم لها وعلَّق عليها، وما زال حبلُ التواصل ممدودًا والشيخ يستحثُّني على إخراج الكتاب؛ لعنايته بتراث الشيخ محمد حياة، الذي جمَع تراثه فبلَغ قرابة أربعين رسالة، انتسَخ منها بنفسِه ٣٠ عنوانًا، وكان يهمُّ بإخراجها في مجموعٍ واحد، وكنتُ عازمًا على زيارته في أقرب فرصةٍ للمشروع ذاته، لكنْ سبقتْ إليه المنيَّةُ، فرحمه الله وطيّب ثراه.

وبعدُ،
فإنَّ الشمائل التي طُبِع عليها شيخُنا وتراءت لي دون تأمُّل: أنَّه مِن أعجبِ مَن رأيتُ في التواضع مع رسوخِ قدمِه في العلم،
ومن أشدِّ الناس هَضمًا للنفْس مع علوِّ كعبِه ورفيع منزلته،
ومِن أكثر الشيوخ بُعدًا عن الأضواء وقد كانت على طرَف الثُّمام منه.
وأنَّ العلم هِجِّيرُه في جلساته، ورفيقه في سفراته، وأنيسه في مقامه، كما كان ينفرُ ممَّا يَشْغَلُ عنه مِن الخصومات والقيل والقال.

وأنه مع رسوخِه في العلوم -ولا سيما علم الحديث-، واقتداره في تحقيق النُّصوص -ولا سيما ذات الخطوط الوعرة- فهو علَّامةٌ في العربية، خِرِّيتٌ في علومِها، ولا غروَ فقد تخصَّص في البكالوريس والماجستير، والدكتوراه -التي لم يتمّها- في الأدَب، فضلًا عن أنَّ دراسته في بلده الهند للعربية كانت قوية إذ درَس أصولًا في ذلك كأدب الكاتب لابن قتيبة وغيره، وكذا العروض وبحور الشِّعر، والعربيُّ مَن عرَّبه اللسان. وقد حدَّثني أخي الشيخ نضال داود خريج كلية اللغة العربية بجامعة دمشق والمُدقِّق اللغوي لسنوات: أنه كان يرجع لشيخنا في عويصات المسائل، ولا يتقدَّم بين يديْه في العربية، لذا كان عضوًا في مَجْمع اللغة العربية على الشابكة، مقرّه مكة المكرمة.

ومن جَليلِ خصالِه: جَلَدُه في العمل ليحفَظ نفسه عن السؤال، فقد كان يعمل صباحًا في مشروع السلام عليك أيها النبي ﷺ، وفي المساء في دار عالم الفوائد.
دع عنك عِفةَ نفْسِه وزهده فيما عند الناس، فممَّا خَبَرتُه أنه حين انتهى عمله مع دار عالم الفوائد طَفِق يبحث عن سبيلٍ لنقل كفالته ليبقى مجاورًا في مكة المكرمة فارًّا بدِينه من لظى نار الهندوس، فوقَعتْ بين يدي ورقةٌ كتَبها الشيخ في ذلك، فأرسلتُها لفاضلٍ ذي مكانة بِرًّا بشيخي، فاستعدَّ هذا الفاضل -لمكانة الشيخ ورغبة في تفريغه للتأليف والتحقيق- لكفايته مادِّيًّا، فلما أخبرتُ الشيخَ بذلك اعتذر بلُطف وعفة نفس، وبشَّرَني بنقل الكفالة:
وما كان قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ واحِدٍ
ولَكِنَّهُ بُنْيَانُ قوْمٍ تَهَدَّمَا

فرحمة الله وبركاته على شيخنا عزير، والحمد لله على كل حال.

وكتب: محمود بن محمد حمدان
الرياض ١٩ ربيع الأول ١٤٤٤

تعليقك

رئيس التحرير

مدير التحرير

عنوان المكتب:

  • رقم التسجيل في وزارة الأعلام: ٧٧١
  • news.carekhabar@gmail.com
    بشال نجر كتمندو نيبال
Flag Counter